فصل: (بَابُ الْهِبَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(بَابُ الْهِبَةِ):

أَصْلُهَا مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ؛ أَيْ: مُرُورِهِ، يُقَالُ: وَهَبْتُ لَهُ وَهْبًا، بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا، وَهِبَةً، وَاسْمُ الْمُوهِبِ وَالْمُوهِبَةِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهِمَا؛ وَالِاتِّهَابُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالِاسْتِيهَابُ سُؤَالُ الْهِبَةِ، وَتَوَاهَبَ الْقَوْمُ؛ أَيْ وَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَوَهَبْته كَذَا، لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْهِبَةُ عَلَى الْمَوْهُوبِ كَمَا فِي الْخَبَرِ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً، أَوْ يَهَبَ هِبَةً، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا إلَّا الْوَالِدُ» وَفِي الْمُحْكَمِ: لَا يُقَالُ: وَهَبَكَهُ، وَعَنْ السِّيرَافِيِّ، أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي أَهَبْكَ نَبْلَةً. وَهِيَ شَرْعًا (تَمْلِيكُ) خَرَجَ بِهِ الْعَارِيَّةُ (جَائِزِ التَّصَرُّفِ) وَهُوَ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ (مَالًا) خَرَجَ بِهِ الْكَلْبُ وَنَحْوُهُ (مَعْلُومًا) يَصِحُّ بَيْعُهُ مَنْقُولًا أَوْ عَقَارًا، (أَوْ) مَالًا (مَجْهُولًا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ) كَدَقِيقٍ اخْتَلَطَ بِدَقِيقٍ لِآخَرَ، فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مِلْكَهُ مِنْهُ؛ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِلْحَاجَةِ. (وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَالِ الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ) فَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ كَمَا تَحْمِلُ أَمَتَهُ أَوْ شَجَرَتَهُ، وَلَا هِبَةُ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَآبِقٍ وَشَارِدٍ، كَبَيْعِهِ (غَيْرَ وَاجِبٍ) عَلَى مُمَلِّكِهِ، فَلَا تَسَمَّى نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ وَنَحْوِهِمَا هِبَةً، لِوُجُوبِهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّمْلِيكُ مُنَجَّزًا (فِي الْحَيَاةِ) خَرَجَ الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَمْلِيكٍ (بِلَا عِوَضٍ) مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ فَبَيْعٌ، وَيَأْتِي (بِمَا يُعَدُّ هِبَةً) مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، كَإِرْسَالِ هَدِيَّةٍ وَدَفْعِ دَرَاهِمَ لِفَقِيرٍ (عُرْفًا) كَالْمُعَاطَاةِ، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عِوَضٍ (بِخِلَافِ عَارِيَّةٍ) فَإِنَّهَا إبَاحَةٌ (وَنَحْوِ كَلْبٍ) كَخَمْرٍ وَجِلْدِ مَيْتَةٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ (وَحَمْلٍ) لِجَهَالَتِهِ وَتَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ (وَنَفَقَةِ زَوْجَةٍ) لِوُجُوبِهَا (وَوَصِيَّةٍ) إذْ هِيَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ (وَنَحْوِ بَيْعٍ) كَإِجَارَةٍ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ. (وَلَا تَصِحُّ) الْهِبَةُ (هَزْلًا وَلَا تَلْجِئَةً) [بِأَنْ لَا تُرَادَ الْهِبَةُ بَاطِنًا] كَأَنْ تُوهَبَ فِي الظَّاهِرِ، وَتُقْبَضَ مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، أَوْ تُوهَبَ لِخَوْفٍ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَلَا تَصِحُّ، وَلِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُهَا إذَا زَالَ مَا يَخَافُ، أَوْ جُعِلَتْ الْهِبَةُ طَرِيقًا إلَى (مَنْعِ وَارِثٍ) حَقَّهُ أَوْ مَنْعِ (غَرِيمٍ حَقَّهُ) فَهِيَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ (فَمَنْ قَصَدَ بِإِعْطَاءٍ) لِغَيْرِهِ (ثَوَابَ الْآخِرَةِ فَقَطْ) فَعَطِيَّتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (صَدَقَةٌ وَ) إنْ قَصَدَ بِإِعْطَائِهِ (إكْرَامًا أَوْ تَوَدُّدًا أَوْ مُكَافَأَةً)، فَعَطِيَّتُهُ (هَدِيَّةٌ، وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِإِعْطَائِهِ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَمَا أَعْطَى (هِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ وَنِحْلَةٌ)؛ أَيْ: يُسَمَّى بِذَلِكَ، فَالْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفِقَةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا (وَيَعُمُّ جَمِيعَهَا لَفْظُ الْعَطِيَّةِ) لِشُمُولِهَا لَهَا (وَهِيَ)؛ أَيْ: الْمَذْكُورَاتُ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَطِيَّةٍ وَهَدِيَّةٍ (مُسْتَحَبَّةٌ لِمَنْ قَصَدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ) تَعَالَى، كَالْهِبَةِ (لِعَالِمٍ وَصَالِحٍ وَفَقِيرٍ، وَ) مَا قَصَدَ بِهِ (صِلَةَ الرَّحِمِ) بَلْ الصَّدَقَةُ عَلَى قَرِيبٍ مُحْتَاجٍ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْدَ مَيْمُونَةُ: أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَوْ أَعْطَيْتِهَا لِأَخْوَالِكَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكَ». وَلَا رَيْبَ أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْهِبَةِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَجِنْسُ الْهِبَةِ مَنْدُوبٌ؛ لِشُمُولِهِ مَعْنَى التَّوْسِعَةِ عَلَى الْغَيْرِ، وَنَفْيِ الشُّحِّ. قَالَ: وَالْفَضْلُ فِيهَا يَثْبُتُ بِإِزَاءِ مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا خَيْرَ فِيمَا قُصِدَ بِهِ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ انْتَهَى وَلَا تُسْتَحَبُّ إنْ قُصِدَ بِهَا مُبَاهَاةٌ أَوْ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ، بَلْ تُكْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْهِبَةِ) لِمَا وَرَدَ، فِيهَا مِمَّا لَا يُحْصَرُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا) أَيْ: الْهِبَةِ (مَعْنًى يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا) عَلَى الصَّدَقَةِ (كَالْإِهْدَاءِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً وَ) كَالْإِهْدَاءِ (لِقَرِيبٍ لِصِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ) الْإِهْدَاءِ (لِأَخٍ فِي اللَّهِ) فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَفْضَلُ، مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ (وَالْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ الْحِقْدَ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدَايَا تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ». وَالْوَحَرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ: الْحِقْدُ وَالْغَيْظُ (وَتَجْلِبُ الْمَحَبَّةَ) لِحَدِيثِ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» (وَتَخْتَصُّ) الْهَدِيَّةُ (بِالْمَنْقُولَاتِ) كَالنَّقْدَيْنِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالْأَوَانِي وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَإِنَّمَا اُخْتُصَّتْ بِالْمَنْقُولَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُحْمَلُ إلَيْهِ، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ (فَلَا) تَصِحُّ هَدِيَّةُ الْعَقَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا (يُقَالُ: أَهْدَى دَارًا) أَوْ ضَيْعَةً أَوْ بُسْتَانًا. (وَمَنْ أَهْدَى) شَيْئًا (لِيُهْدَى لَهُ أَكْثَرُ) مِنْهُ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْتَغْزِرُ يُثَابُ مِنْ هِبَتِهِ». (لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ؛ لِقَوْلَةِ تَعَالَى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}؛ أَيْ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الْأَخْلَاقِ وَأَجَلِّهَا. (وَوِعَاءُ هَدِيَّةٍ كَهِيَ) فَلَا يُرَدُّ (مَعَ عُرْفٍ) بِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِرْفٌ رَدَّهُ، قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: لَا يَدْخُلُ الْوِعَاءُ إلَّا مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ (كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ) وَنَحْوِهَا انْتَهَى.
(وَكُرِهَ رَدّ هِبَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ) كَذِرَاعٍ، أَوْ كُرَاعٍ- بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ- مُسْتَدَقُّ السَّاقِ مِنْ الرِّجْلِ وَمِنْ حَدِّ الرُّسْغِ فِي الْيَدِ، وَهُوَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَظِيفِ مِنْ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، وَوَظِيفُ الْبَعِيرِ خُفُّهُ، وَهُوَ كَالْحَافِرِ لِلْفَرَسِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٍ لَقَبِلْتُ». خُصُوصًا الطِّيبُ؛ لِحَدِيثِ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ فَعَدَّ مِنْهَا الطِّيبَ»، وَلِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ» وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ وَهِبَةٍ، وَلَوْ جَاءَتْ بِلَا مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، يَعْنِي الْمُوَفَّقَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَصْحَابِ، قَالُوا فِي الْحَجِّ: لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا بِبَذْلِ غَيْرِهِ، وَفِي الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ قَبُولُ السُّتْرَةِ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ. (وَيُكَافِئُ) الْمُهْدِيَ لَهُ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (أَوْ يَدْعُو لَهُ)؛ أَيْ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهَا، فَلْيَذْكُرْهَا، وَيُثْنِي عَلَى صَاحِبِهَا الَّذِي أَهْدَاهَا (نَدْبًا فِيهَا)؛ أَيْ: فِي حَالِ الْمُكَافَأَةِ وَغَيْرِهَا، فَيَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: «مَنْ أَعْطَى عَطَاءً، فَوَجَدَ؛ فَلْيَجْزِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ، فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَيُقَدَّمُ فِي الْهَدِيَّةِ الْجَارُ الْقَرِيبُ بَابُهُ عَلَى الْبَعِيدِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: قَالَتْ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ لِي جَارَيْنِ فَلِأَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا». وَيَجُوزُ رَدُّهَا لِأُمُورٍ، مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَخْذَهَا بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي جَمَلِهِ: «قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْنِي جَمَلَك هَذَا, قَالَ قُلْت: لَا بَلْ هُوَ لَك. قَالَ: لَا بَلْ بِعْنِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَوْ يَكُونُ الْمُعْطِي لَا يَقْنَعُ بِالثَّوَابِ الْمُعْتَادِ؛ لِمَا فِي الْقَبُولِ مِنْ الْمَشَقَّةِ حِينَئِذٍ، أَوْ تَكُونُ الْهَدِيَّةُ بَعْدَ السُّؤَالِ وَاسْتِشْرَافِ النَّفْسِ لَهَا؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ: «إذَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». وَإِشْرَافُ النَّفْسِ فَسَّرَهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بِأَنَّهُ تَطَلُّبٌ لِلشَّيْءِ، وَارْتِفَاعٌ لَهُ، وَتَعَرُّضٌ إلَيْهِ، أَوْ لِقَطْعِ الْمِنَّةِ إذَا كَانَ عَلَى الْآخِذِ فِيهِ مِنَّةٌ، وَقَدْ يَجِبُ رَدُّ الْهِبَةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا إذَا عَلِمَ) الْمُهْدَى لَهُ (أَنَّهُ)؛ أَيْ: الْمُهْدِي (أَهْدَى حَيَاءً فَيَجِبُ الرَّدُّ)؛ أَيْ: رَدُّ هَدِيَّتِهِ إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآدَابِ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ فِي الْعُقُودِ عِنْدَنَا مُعْتَبَرَةٌ، وَكَذَا يَجِبُ رَدُّ هَدِيَّةِ صَيْدٍ لِمُحْرِمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رَدَّ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ هَدِيَّةَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ». (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ حَيَاءً، إمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، (أَوْ) يَجِبُ عَلَيْهِ (الْعِوَضُ) وَأَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِثْلَهَا أَوْ خَيْرًا مِنْهَا.
(وَ) يَتَّجِهُ مَا ذَكَرَ (أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى) مَنْ كَانَ (بَذِيءَ لِسَانٍ)؛ أَيْ: فَاحِشَهُ (يُخَافُ مِنْهُ) التَّسَلُّطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُكَافِئْهُ بِالْهَجْوِ وَ(الذَّمِّ) فَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْ هَدِيَّتِهِ خُرُوجًا مِنْ عُهْدَتِهِ وَاسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ تَمْزِيقِ عِرْضِهِ وَارْتِكَابِهِ إثْمَ الْغِيبَةِ.
(وَ) يَتَّجِهُ (أَنَّهُ يُحَرَّمُ أَكْلُ نَحْوِ طُفَيْلِيٍّ) كَمِلْحٍ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ طَعَامٌ لِيَسْتَحِي مِنْهُ وَيُطْعِمَهُ. وَالطُّفَيْلِيُّ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا إذْنٍ مِنْهُ (وَ) يُحَرَّمُ أَكْلُ (ضَيْفٍ كَذَلِكَ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْمُحَابَاةِ بِأَنْ يُقِيمَ فِي الْقَرْيَةِ زِيَادَةً عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيُكَلِّفَ أَهْلَهَا أَنْ يُضَيِّفُوهُ، فَيَسْتَحْيُونَ، وَيُطْعِمُونَهُ؛ فَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ مِنْ زَادِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَاصِبِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِآخَرَ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ؛ لِمَا (فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً؛ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا»).
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَاعِدَةِ الْخَمْسِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ: وَمِنْهَا الْهَدِيَّةُ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي: وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهَا كَالْأُجْرَةِ، وَالشَّفَاعَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَأَدَّاهَا، فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا إلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَافَأَةِ انْتَهَى.
(وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي لِلْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ لِقَوْمٍ) امْرَأَةً (أَنْ يَقْبَلَ لَهُمْ هَدِيَّةً) لِأَنَّ الْخَاطِبَ كَالشَّفِيعِ؛ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَانُوا يَسْمَعُونَ لِمَنْ يَكْذِبُ عِنْدَهُمْ، وَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ مِمَّنْ يَحْكُمُونَ لَهُ، وَالْهَدِيَّةَ مِمَّنْ يَشْفَعُونَ فِيهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: السُّحْتُ خَمْسَةَ عَشَرَ: الرِّشْوَةُ وَمَهْرُ الْبَغْيِ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَالنَّرْدُ، وَالْخَمْرُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَالْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ، وَأَجْرُ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ، وَالسَّاحِرِ، وَأَجْرُ مُصَوِّرِ التَّمَاثِيلِ. (وَإِنْ شُرِطَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (فِيهَا)؛ أَيْ: الْهِبَةِ (عِوَضٌ مَعْلُومٌ فَ) هُوَ (بَيْعٌ صَحِيحٌ) نَصًّا كَشَرْطِهِ فِي عَارِيَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ مَجْلِسٍ وَنَحْوِهِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَاللُّزُومِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، وَضَمَانِ الدَّرْكِ، وَوُجُوبِ التَّسَاوِي مَعَ التَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي الرِّبَوِيِّ الْمُتَّحِدِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك أَوْ مَلَّكْتُك هَذَا بِهَذَا.
(وَ) إنْ شُرِطَ فِي الْهِبَةِ ثَوَابٌ (مَجْهُولٌ فَ) هُوَ بَيْعٌ (فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَجْهُولٌ فِي مُعَاوَضَةٍ؛ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ، وَحَيْثُ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَتُرَدُّ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْوَاهِبِ، وَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ زَوَائِدُهَا؛ ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَافِئَهُ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، نَصَّ عَلَيْهِ.
(وَ) إنْ صَدَرَتْ الْهِبَةُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ (مَعَ إطْلَاقٍ) بِأَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا؛ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا (لَا تَقْتَضِي عِوَضًا، وَلَوْ) كَانَ الْمُهْدِي إنَّمَا (أَعْطَاهُ) الْهَدِيَّةَ (لِيُعَاوِضَهُ) عَنْهَا (أَوْ) أَعْطَاهُ الْهَدِيَّةَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمُهْدَى إلَيْهِ (يَقْضِي لَهُ)؛ أَيْ: لِمَنْ أَهْدَى (حَاجَةً) وَلَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ انْتِفَاءُ الْعِوَضِ وَالْقَرِينَةُ لَا تُسَاوِيهِ؛ فَلَا يَصِحُّ إعْمَالُهَا، وَلِهَذَا لَمْ نُلْحِقْهُ بِالشَّرْطِ. (أَوْ) كَانَتْ الْهَدِيَّةُ (مِنْ) شَخْصٍ لِمِثْلِهِ، أَوْ كَانَتْ مِنْ (أَدْنَى لِأَعْلَى مِنْهُ) وَقَوْلُ عُمَرَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً يُرِيدُ بِهَا الثَّوَابَ؛ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا جَوَابَهُ بِأَنَّهَا هِبَةٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ، فَلَمْ تَقْتَضِ ثَوَابًا كَالْوَصِيَّةِ، وَقَوْلُ عُمَرَ خَالَفَهُ ابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ (وَيَتَّجِهُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ) فِي قَوْلِهِ لَا يَقْتَضِي عِوَضًا (الْمُعَاوَضَةَ) وَنَفْيِ وُجُوبِ الْمُعَاوَضَةِ (لَا) يَقْتَضِي نَفْيَ جَوَازِ (الرُّجُوعِ) وَحِينَئِذٍ فَلِمُعْطِي الْهَدِيَّةِ رَجَاءُ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ قَضَاءُ حَاجَةٍ، مِمَّنْ أَهْدَى إلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ أَنْ (يَرْجِعَ) بِهَدِيَّتِهِ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، أَوْ بَدَلِهَا إنْ تَلِفَتْ (كَزَوْجٍ) خَطَبَ امْرَأَةً، وَ(وَعَدَ) هـ أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا مِنْهُ (وَلَمْ يَفُوا لَهُ) بِمَا وَعَدُوهُ مِنْ التَّزْوِيجِ وَكَانَ قَدْ أَهْدَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَجَابُوهُ قَبْلَ عُدُولِهِمْ عَنْ التَّزْوِيجِ؛ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَهْدَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطِ عِوَضٍ) بِأَنْ قَالَ الْوَاهِبُ: شَرْطُنَا الْعِوَضُ، وَأَنْكَرَهُ مَوْهُوبٌ لَهُ (فَقَوْلُ) مَوْهُوبٍ لَهُ (مُنْكَرٌ) بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي) الصَّادِرِ مِنْهُمَا، فَقَالَ مَنْ بِيَدِهِ الْعَيْنِ (وَهَبْتنِي) مَا بِيَدِي (فَقَالَ) مُقْبِضٌ (بَلْ بِعْتُكَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ) لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا قَالَهُ؛ فَإِنَّهُ (يَحْلِفُ كُلٌّ) مِنْهُمَا (عَلَى مَا أَنْكَرَ) مِنْ دَعْوَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ (وَلَا هِبَةَ) بَيْنَهُمَا (وَلَا بَيْعَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ (فَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) قَوِيٍّ (تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ بَائِعٍ) لِمَا مَعَهَا مِنْ زِيَادَةِ عِلْمٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَتَصِحُّ) الْهِبَةُ بِعَقْدٍ (وَتُمْلَكُ) الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ (بـِ) مُجَرَّدِ (عَقْدٍ) وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ فَالْقَبْضُ مُعْتَبَرٌ لِلُزُومِهَا وَاسْتِمْرَارِهَا، لَا لِانْعِقَادِهَا، وَإِنْشَائِهَا. صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفَائِقِ. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَفِطْرَةُ عَبْدٍ مَوْهُوبٍ قَبْلَ غُرُوبِ لَيْلَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَوْهُوبٍ لَهُ- وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ- لِدُخُولِ وَقْتِ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ (فَيَصِحُّ تَصَرُّفُ) مَوْهُوبٌ لَهُ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ. (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) قَوِيٍّ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ (مَوْقُوفًا) عَلَى الْقَبْضِ، فَإِنْ وُجِدَ الْقَبْضُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِقَبُولِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْوَاهِبِ. قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ (غَيْرُ عِتْقٍ) فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَيْهِ، فَإِذَا وَهَبَ إنْسَانٌ قِنًّا لِمَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ يُعْتَقُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (قَبْلَ قَبْضٍ) عَلَى الْمَذْهَبِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَالنَّمَاءُ لِلْمُتَّهِبِ. وَتَصِحُّ هِبَةً وَتُمْلَكُ (بِمُعَاطَاةٍ) مُقْتَرِنَةٍ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الْهِبَةِ- وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ- لِأَنَّ الْمُعَاطَاةَ وَالْأَفْعَالَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَافِيَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى لَفْظٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى إلَيْهِ، وَيُعْطِي وَيُعْطَى، وَيُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ، وَيَأْمُرُ سُعَاتَهُ بِأَخْذِهَا وَتَفْرِيقِهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ وَلَا أَمْرٌ بِهِ، وَلَا تَعْلِيمُهُ لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا مُشْتَهِرًا، «وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى بَعِيرٍ لِعُمَرَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْت». وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا قَبُولُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الرِّضَى بِنَقْلِ الْمِلْكِ يَقُومُ مَقَامَ الْإِيجَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِالْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ، وَاكْتَفَيْنَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَهُوَ إجَارَةٌ وَبَيْعُ أَعْيَانٍ، فَإِذَا اكْتَفَيْنَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعَ تَأَكُّدِهَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّهَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ فَلَأَنْ نَكْتَفِيَ بِهِ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى (فـَ) عَلَى الْمَذْهَبِ (تَجْهِيزُ بِنْتِهِ، وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) قَوِيٍّ (أَوْ) تَجْهِيزُ (ابْنِهِ، أَوْ) تَجْهِيزُ (أُخْتِهِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ وَنَحْوُهَا، فَعَلَيْهِ تَجْهِيزُ أَجْنَبِيٍّ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ كَذَلِكَ؛ لِحُصُولِهِ بِالْمُعَاطَاةِ الْمُكْتَفَى بِهَا عَنْ الصَّرِيحِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (بِجِهَازٍ لِبَيْتِ زَوْجٍ) هَا (تَمْلِيكٌ) لَهَا وَقَبُولٌ؛ لِوُجُودِ الْمُعَاطَاةِ بِالْفِعْلِ الدَّالِ عَلَى الْهِبَةِ (وَهِيَ)؛ أَيْ: الْهِبَةُ إذَا وَقَعَتْ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ (فِي تَرَاخٍ) نَحْوَ قَبُولٍ عَنْ إيجَابٍ كَبَيْعٍ؛ فَتَصِحُّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهَا، (وَ) هِيَ كَبَيْعٍ فِي (تَقَدُّمِهِ)؛ أَيْ: تَقَدُّمِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِيجَابِ؛ فَيَصِحُّ فِي الْحَالِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الْبَيْعُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا يَبْطُلُ فِيهِ، وَغَيْرِهِمَا كَانْعِقَادِهَا بِكُلِّ لَفْظٍ أَدَّى مَعْنَاهَا، وَبِالْمُعَاطَاةِ (وَ) كَ (اسْتِثْنَاءِ) وَاهِبٍ (نَفْعَ) مَوْهُوبٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ الْمُوَفَّقِ إجَابَةً لِسُؤَالٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ رَجَبٍ (كَمَبِيعٍ) جَزَمَ بِهِ الْحَارِثِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِنْصَافِ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. (وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ حَمْلِ أَمَةٍ وُهِبَتْ فِيهِ) كَالْعِتْقِ (وَكَذَا) يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ (نَحْوِ لَبَنٍ) كَشَعْرٍ (وَصُوفٍ) مِنْ شَاةٍ وُهِبَتْ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ نَفْعِ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ وُهِبَا مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ.
(وَ) يَحْصُلُ (قَبُولٌ هُنَا وَفِي وَصِيَّةٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالٍّ عَلَى الرِّضَى وَقَبْضُهَا)؛ أَيْ: الْهِبَةِ فِي الْحُكْمِ (كـَ) قَبْضِ (مَبِيعٍ) فَيَكُونُ فِي مَوْهُوبٍ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ أَوْ مَذْرُوعِ بِكَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ أَوْ عَدِّهِ أَوْ ذَرْعِهِ، وَفِيمَا يُنْقَلُ بِنَقْلِهِ، وَفِيمَا يُتَنَاوَلُ بِتَنَاوُلِهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ بِالتَّخْلِيَةِ. (وَلَا يَصِحُّ) قَبْضُ هِبَةٍ (إلَّا بِإِذْنِ وَاهِبٍ لَهُ) فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْوَاهِبِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَأَصْلِ الْعَقْدِ وَكَالرَّهْنِ (وَلَوْ) كَانَ الْقَبْضُ (بِمُنَاوَلَةٍ) لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَيَحْصُلُ الْإِذْنُ فِي قَبْضِ هِبَةٍ (بِتَخْلِيَةٍ) بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. (وَلَهُ)؛ أَيْ: الْوَاهِبِ (الرُّجُوعُ) فِي هِبَةٍ وَفِي إذْنِهِ فِي قَبْضِهَا (قَبْلَهُ)؛ أَيْ: الْقَبْضِ- وَلَوْ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمُتَّهِبِ- لِبَقَاءِ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ الرُّجُوعُ عَنْهُ رُجُوعًا فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْإِذْنِ إعْدَامٌ لَهُ، وَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ رُجُوعًا. قَالَهُ الْحَارِثِيُّ، وَقَالَ: وَعِتْقُ الْمَوْهُوبِ وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ رُجُوعٌ؛ لِحُصُولِ الْمُنَافَاةِ. (وَيُكْرَهُ) رُجُوعُهُ عَنْ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا (وَلَوْ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ) أَيْ: الْمُتَّهِبِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمْ يَتِمَّ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَنْعِ (وَيَبْطُلُ إذْنُ) وَاهِبٍ فِي قَبْضِ هِبَةٍ.
وَ(لَا) تَبْطُلُ (هِيَ)؛ أَيْ: الْهِبَةُ (بِمَوْتِ وَاهِبٍ) فَيَبْطُلُ إذْنُهُ لِلْمُتَّهِبِ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ ثُمَّ مَاتَ (كـَ) مَا تَبْطُلُ (هِيَ)؛ أَيْ: الْهِبَةُ (بِمَوْتِ مُتَّهِبٍ) قَبْلَ قَبْضِ مَوْهُوبٍ، وَ(لَا) تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِ مُتَّهِبٍ (بَعْدَ قَبْضِ وَكِيلِهِ) لِلُزُومِهَا بِالْقَبْضِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَإِنْ مَاتَ وَاهِبٌ قَبْلَ إقْبَاضٍ وَرُجُوعٍ لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَقْدًا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ كَمَوْتِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (وَيَقُومُ وَارِثٌ وَاهِبٌ مَقَامَهُ فِي إذْنٍ) فِي الْقَبْضِ (وَ) فِي رُجُوعٍ فِي الْهِبَةِ، إذْ عَقْدُ الْهِبَةِ بِالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ أَشْبَهُ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ. تَكْمِيلٌ: وَإِنْ وَهَبَ إنْسَانٌ لِغَائِبٍ هِبَةً وَأَنْفَذَهَا الْوَاهِبُ مَعَ رَسُولِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وُصُولِهَا؛ لَزِمَ حُكْمُهَا، وَكَانَتْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهَا كَقَبْضِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ بَعْدَ لُزُومِهَا. وَإِنْ أَنْفَذَهَا الْوَاهِبُ مَعَ رَسُولِ نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ بَطَلَتْ وَكَانَتْ لِلْوَاهِبِ أَوْ وَرَثَتِهِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: «لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: إنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقٍ مِسْكٍ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إلَّا مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ فَهِيَ لَك. قَالَتْ: فَكَانَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ مِسْكٍ وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ بَعْدَ بَعْثِ رَسُولِهِ بِالْهَدِيَّةِ؛ لِعَدَمِ الْقَبُولِ كَمَا يَأْتِي، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ حَمْلُ الْهِبَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاهِبِ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ صَارَ إلَيْهِ، وَكَذَا حُكْمُ هَدِيَّةٍ وَصَدَقَةٍ، لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ الْهِبَةِ. (وَتَلْزَمُ) الْهِبَةُ (بـِ) مُجَرَّدِ (قَبْضٍ) بِإِذْنِ وَاهِبٍ؛ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِعَائِشَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: يَا بُنَيَّةُ كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيهِ وَحُزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَالَ عُمَرُ: لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةٌ يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَلَدِ. وَكَالطَّعَامِ الْمَأْذُونِ فِي أَكْلِهِ، وَيَعْتَبِرُ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ مِنْ (رَشِيدٍ فِي غَيْرِنَا تَافِهٍ) أَيْ: قَلِيلٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ كَرَغِيفٍ وَنَحْوِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ رُشْدُ قَابِضِهِ (أَوْ) بِقَبْضِ (وَلِيِّ غَيْرِهِ)- أَيْ: غَيْرِ الرَّشِيدِ- كَالصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ قَبُولٌ لِمَا لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهِ حَظٌّ، فَكَانَ إلَى الْوَلِيِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ وَلَا الْقَبْضُ مِنْ غَيْرِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ أَمِينُهُ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي صَبِيٍّ وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ، فَقَبَضَتْ الْأُمُّ ذَلِكَ وَأَبُوهُ حَاضِرٌ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لِلْأُمِّ قَبْضًا يَكُونُ إلَّا لِلْأَبِ، وَإِنْ عَدِمَ الْوَلِيُّ فَيَقْبِضُ لِغَيْرِ الرَّشِيدِ مَنْ يَلِيهِ؛ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَيَأْتِي.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ، وَيَكُونُ فَقِيرًا لَا غِنَى بِهِ عَنْ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ غَيْرِهِمْ لَهُ، انْسَدَّ بَابُ وُصُولِهَا إلَيْهِ، فَيَضِيعُ وَيَهْلِكُ، وَمُرَاعَاةُ حِفْظِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْوِلَايَةِ (كـَ) مَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ (بِمُجَرَّدِ عَقْدٍ فِيمَا بِيَدِ مُتَّهِبٍ) كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهِ. صَحَّحَهُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَدَامٌ، فَأَغْنَى عَنْ الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً، وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعُ مِنْ شَرِيكِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، مَنْقُولًا كَانَ كَجُزْءٍ مِنْ نَحْوِ فَرَسٍ أَوْ غَيْرِهِ كَجُزْءٍ مِنْ عَقَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ يَنْقَسِمُ أَوْ لَا كَالْعَبْدِ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا غَنِمَ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ». (وَيَعْتَبِرُ لِصِحَّةِ قَبْضِ مُشَاعٍ يُنْقَلُ) أَيْ: لِجَوَازِهِ أَوْ لِانْتِقَاءِ ضَمَانِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ. ذَكَرَهُ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ (إذْنُ شَرِيكٍ) فِيهِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ إلَّا بِقَبْضِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِجَوَازِ الْقَبْضِ، [لَا لُزُومِ الْهِبَةِ فَتَلْزَمُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ شَرِيكُهُ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْقَابِضِ] مَقْبُوضًا تَمَلُّكًا وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ مَقْبُوضًا أَمَانَةً، فَإِنْ أَبَى الشَّرِيكُ أَنْ يُسَلِّمَ نَصِيبَهُ قِيلَ لِلْمُتَّهِبِ: وَكُلُّ الشَّرِيكِ فِي قَبْضِهِ لَك وَنَقْلِهِ، فَإِنْ أَبَى نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا، فَيَنْقُلُهُ فَيَحْصُلُ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَذِنَ شَرِيكُهُ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ مَجَّانًا فَكَعَارِيَّةٍ فِي ضَمَانِهِ إذَا تَلِفَ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَإِذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بِأُجْرَةٍ؛ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَكُونُ فِي يَدِ الْقَابِضِ أَمَانَةً كَمَأْجُورٍ؛ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ. وَإِنْ تَلِفَ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ وَلَوْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً كَأَنْ اسْتَعْمَلَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِثْلَهَا بِقَصْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ فَاسِدَ الْعُقُودِ كَصَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، وَتَقَدَّمَ. وَإِنْ تَصَرَّفَ بِلَا إذْنِ شَرِيكِهِ، وَلَا إجَارَةٍ، أَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَكَغَاصِبٍ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَادِيَةٌ. (وَإِنْ وَهَبَ وَلِيٌّ) كَحَاكِمٍ أَوْ وَصِيٍّ (مُوَلِّيَهُ) لَمْ يَتَوَلَّ طَرَفَيْ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ وَ(وَكَّلَ مَنْ يَقْبَلُ) لَهُ الْهِبَةَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَبِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ (وَيَقْبِضُ هُوَ)؛ أَيْ: الْوَلِيُّ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لِلصَّبِيِّ، وَيَقْبِضُ لَهُ لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مِنْهُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ (وَلَا يَحْتَاجُ أَبٌ وَهَبَ وَلَدَهُ لِصِغَرٍ) إلَى تَوْكِيلٍ فِي الْقَبُولِ؛ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ (وَيَتَّجِهُ) أَيْضًا وَلَا يَحْتَاجُ أَبٌ وَهَبَ وَلَدَهُ لِسَفَهٍ (أَوْ جُنُونٍ).
قَالَ الْبُهُوتِيُّ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (إلَى تَوْكِيلٍ فِي الْقَبُولِ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ (فَيَكْفِي) قَوْلُ الْأَبِ (وَهَبْتُ ذَا لِوَلَدِي وَقَبِلْته لَهُ) فَإِنْ لَمْ يَقُلْ: وَقَبِلْته أَوْ وَقَبَضْته لَهُ؛ لَمْ يَكْفِ عَلَى ظَاهِرِ رِوَايَةِ حَرْبٍ؛ لِتَغَايُرِ الْقَبْضَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الَّتِي لِجِهَةِ الْمُتَّهِبِ هُنَا هِيَ نَفْسُ يَدِ الْوَاهِبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، أَوْ يَدَّعِيَهُ الْوَرَثَةُ تِرْكَةً، فَيَذْهَبَ عَنْ الطِّفْلِ. (وَيُغْنِي قَبْضُ) هِبَةٍ إذَا كَانَ قَابِضُهَا رَشِيدًا (عَنْ قَبُولٍ) فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ الْقَبُولِ (لَا عَكْسِهِ) أَيْ: لَا يُغْنِي قَبُولُ الْهِبَةِ عَنْ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْقَبْضِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ رُجُوعِ الْوَاهِبِ بِهَا. وَلَا يَصِحُّ قَبْضُ طِفْلٍ- وَلَوْ مُمَيَّزًا- وَلَا قَبْضُ مَجْنُونٍ لِأَنْفُسِهِمَا، وَلَا قَبُولُهُمَا الْهِبَةَ؛ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، بَلْ يَقْبَلُ وَيَقْبِضُ لَهُمَا وَلِيُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ عَلَيْهِمَا. فَالْأَبُ الْعَدْلُ وَلَوْ ظَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَصِيٌّ، ثُمَّ حَاكِمٌ أَمِينٌ كَذَلِكَ، أَوْ مَنْ يُقِيمُونَهُ مَقَامَهُمْ (وَعِنْدَ عَدَمِ وَلِيٍّ غَيْرِ رَشِيدٍ، يَقْبِضُ لَهُ) أَيْ: لِغَيْرِ الرَّشِيدِ (مَنْ يَلِيه مِنْ نَحْوِ أُمٍّ وَقَرِيبٍ) وَغَيْرِهِمَا (نَصًّا) قَالَ ابْنُ الْحَكَمِ: سُئِلَ أَحْمَدُ: يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الصَّبِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ يُعْطَى أَبَاهُ أَوْ مَنْ يَقُومُ بِشَأْنِهِ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ أَيْضًا نَحْوَهُ. [قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ جَلَبَ مَنْفَعَةً، وَمَحِلَّ حَاجَةٍ، (لَكِنْ يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ)] قَبْضُ الْمَأْكُولِ الَّذِي يُدْفَعُ مِثْلُهُ لِلصَّغِيرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَان النَّاسُ إذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثِّمَارِ جَاءُوا بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَخَذَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُ مِنْ الْوِلْدَانِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا قَبِلَ الْحَاكِمُ الْهِبَةَ لِوَلَدِهِ، أَوْ كَانَ الْأَبُ قَدْ مَاتَ- وَلَا وَصِيَّ لَهُ- قَبِلَ لَهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ إذَنْ. (وَمَا أُهْدِيَ فِي) دَعْوَةِ (خِتَانِ صَبِيٍّ) اتَّخَذَهَا أَبُوهُ (فـَ) هُوَ (لِأَبِيهِ) لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ (إلَّا مَعَ) وُجُودِ (قَرِينَةٍ) تَقْتَضِي (اخْتِصَاصَ) ذَلِكَ (بِمَخْتُونٍ، كَثَوْبٍ) فَلَهُ (أَوْ) تَقْتَضِي (اخْتِصَاصَ) ذَلِكَ (بِأُمٍّ، فَلَهَا، كَكَوْنِ مُهْدٍ قَرِيبَهَا أَوْ) كَوْنِهِ (مَعْرِفَتَهَا) حَمْلًا عَلَى الْعُرْفِ (وَخَادِمُ الْفُقَرَاءِ الَّذِي يَطُوفُ لَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ مَا حَصَلَ لَهُ عَلَى اسْمِهِمْ، أَوْ بِنِيَّةِ قَبْضِهِ لَهُمْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ) لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ لِلشَّرِكَةِ فِيهِ، وَهُوَ إمَّا وَكِيلُهُمْ أَوْ وَكِيلُ الدَّافِعِينَ، فَيَنْتَفِي الِاخْتِصَاصُ (وَمَا يُدْفَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (مِنْ صَدَقَةٍ لِشَيْخِ زَاوِيَةٍ) أَوْ شَيْخِ رِبَاطٍ (فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ) لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ اخْتِصَاصًا، فَهُوَ كَوَكِيلِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الدَّافِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ (وَلَهُ التَّفْضِيلُ) فِي الْقَسْمِ (بِحَسَبِ الْحَاجَةِ) لِأَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا سَدُّ الْخُلَّةَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ إلَيْهِ مَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ؛ وَالظَّاهِرُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ (وَمَا لَمْ تَجُزْ عَادَةً بِتَفْرِيقِهِ لِقِلَّتِهِ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ) لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ صَدَرَ إلَيْهِ، وَلَا قَرِينَةَ تَصْرِفُهُ عَنْهُ (ذَكَرَهُ الْحَارِثِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَهِبَةُ مَحْجُورٍ) عَلَيْهِ (مَالُهُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ (وَلَوْ) صَدَرَتْ مِنْهُ (بِإِذْنِ وَلِيِّهِ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَهِبَةُ سَفِيهٍ كَذَلِكَ، وَلَوْ أَذِنَ فِيهَا وَلِيُّهُ. (وَتَصِحُّ) الْهِبَةُ (مِنْ قِنٍّ بِإِذْنِ سَيِّدِ) هـ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَقٌّ عَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَهُ انْفَكَّ، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ، وَ(لَا) تَصِحُّ الْهِبَةُ بِحَيْثُ تَكُونُ تَمْلِيكًا (لَهُ) أَيْ: الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، وَأَمَّا قَبُولُهُ الْهِبَةَ؛ فَيَصِحُّ بِلَا رَيْبٍ.
قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَمَا اتَّهَبَهُ عَبْدٌ غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَقَبِلَهُ؛ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَيَصِحُّ قَبُولُهُ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ: وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ لِلسَّيِّدِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهُ فِيهِ كَالِالْتِقَاطِ، وَمَا وَهَبَهُ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِهِ، فَأَشْبَهَ اصْطِيَادَهُ وَقَوْلُهُ: (خِلَافًا لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ فِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ مِلْكِ الْهِبَةِ لِلْقِنِّ، وَإِنَّمَا قَالَ بِجَوَازِ قَبُولِهَا فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ قَبُولِهِ لَهَا أَنْ يَمْلِكَهَا، وَعِبَارَتُهُ: وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ وَالْهَدِيَّةَ بِغَيْرِ إذْنِهِ انْتَهَى.
وَقَدْ ظَهَرَ لَك بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النُّقُولِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. (وَلَا) تَصِحُّ الْهِبَةُ (لِحَمْلٍ) لِأَنَّ تَمْلِيكَهُ تَعْلِيقٌ عَلَى خُرُوجِهِ حَيًّا، وَالْهِبَةُ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ (وَمَنْ) (أَبْرَأَ) مَدِينَهُ (مِنْ دَيْنِهِ) صَحَّ (أَوْ وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ) صَحَّ (أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ) صَحَّ (أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ) صَحَّ لِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ (أَوْ تَرَكَهُ) لَهُ صَحَّ (أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ) صَحَّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هِبَتِهِ إيَّاهُ (أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ) صَحَّ لِوُرُودِ الْإِبْرَاءِ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}. (وَيَتَّجِهُ) صِحَّةُ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ إنْ كَانَ (صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ) إذْ لَا يَصِحُّ جَعْلُ مَا فِي الذِّمَّةِ عَنْ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا الِاتِّجَاهُ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ. (أَوْ عَفَا عَنْهُ صَحَّ) ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يَعْنِي بِهِ الْإِبْرَاءَ مِنْ الصَّدَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَعْطَيْتُكَهُ وَنَحْوَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً وَإِسْقَاطًا، وَلَفْظُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَيْنَ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ؛ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ، وَمِنْ هُنَا امْتَنَعَ هِبَتُهُ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ إجْزَاؤُهُ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ انْتَهَى.
وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ (وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ (قَبْلَ حُلُولِهِ) أَيْ: الدَّيْنِ (أَوْ رَدَّ) الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ، لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ (أَوْ) كَانَ الدَّيْنُ الْمُبْرِئُ مِنْهُ مَجْهُولًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ (جَهِلَ) هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا (قَدْرَهُ) أَوْ جَهِلَا وَصْفَهُ أَوْ جَهِلَا الْقَدْرَ وَالْوَصْفَ مَعًا (أَوْ اعْتَقَدَ) رَبُّ الدَّيْنِ الْمُسْقِطُ لَهُ (عَدَمَهُ) أَيْ: الدَّيْنِ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ مِائَةٍ يَعْتَقِدُ عَدَمَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ، اعْتِبَارًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَمَنْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ وَنَحْوَهُ ظَانًّا حَيَاتَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ؛ لِمُصَادِفَةِ الْحَقِّ. وَتَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَجْهُولِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ عِلْمُهُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ فَيَنْفُذُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَتَصِحُّ الْبَرَاءَةُ أَيْضًا مِنْ الْمَجْهُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ كَانَ يَعْلَمهُ الْمُبْرِئُ فَقَطْ، كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَعْلُومِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عُمُومُ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَجْهُولِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ. صَرَّحَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ آخِرَ الْقَذْفِ (لَا إنْ عَلِمَهُ) أَيْ: الدَّيْنَ (مَدِينٌ فَقَطْ وَكَتَمَهُ) مِنْ رَبِّ دَيْنٍ (خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ) أَيْ: رَبَّ الدَّيْنِ (إنْ عَلِمَ) بِالدَّيْنِ (لَمْ يُبْرِئْهُ) أَيْ: رَبُّ الدَّيْنِ مِنْهُ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، وَهُوَ إذَنْ كَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ، صَحَّ الْإِبْرَاءُ فِي الْأَلْفِ وَفِيمَا دُونَهُ. وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءَ مِنْ الدَّيْنِ قَبْلَ وُجُوبِهِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا طَلَاقَ إلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إلَّا فِيمَا تَمْلِكُ». وَالْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا (أَوْ) أَيْ: وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ إنْ (عَلَّقَهُ) رَبُّ دَيْنٍ بِشَرْطٍ نَصًّا (فـَ) قَوْلُهُ لِلْمَدِينِ (إنْ مِتَّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ بِفَتْحِ التَّاءِ، تَعْلِيقٌ) فَلَا يَبْرَأُ (وَ) قَوْلُهُ إنْ مِتُّ (بِضَمِّهَا) أَيْ: التَّاءِ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ (وَصِيَّةٌ) لِلْمَدِينِ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ. (وَلَا تَصِحُّ) الْبَرَاءَةُ (مَعَ إبْهَامِ) الْمَحَلِّ الْوَارِدِ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ (كَأَبْرَأْتُ أَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيَّ أَوْ) أَبْرَأْتُ غَرِيمِي هَذَا (مِنْ أَحَدِ دَيْنَيَّ) كَوَهَبْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ كَفَلْت أَحَدَ الدَّيْنَيْنِ (فَلَا يُؤْخَذُ بِبَيَانٍ خِلَافًا لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ فَإِنَّهُ قَدَّمَ الصِّحَّةَ تَبَعًا لِاخْتِيَارِ الْحَلْوَانِيِّ وَالْحَارِثِيِّ، فَقَالَ: وَمِنْ صُوَرِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَجْهُولِ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي التَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى عَدَمُ الصِّحَّةِ، وَتَابَعَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. (وَلَوْ تَبَارَآ) أَيْ: الدَّائِنُ وَالْمُسْتَدِينُ (وَ) ظَهَرَ (لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ) مُسَطَّرٌ (بـِ) صَكٍّ (مَكْتُوبٍ، فَادَّعَى) مَنْ هُوَ بِيَدِهِ (اسْتِثْنَاءَهُ) مِنْ الْإِبْرَاءِ (قُبِلَ) قَوْلُهُ (بِيَمِينِهِ) لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.